لذة العذاب

هكذا بدأت رحلة العذاب مع ياسمين التي كانت كرقة الياسمين، شديدة البياض ضعيفة كعود الياسمين الطري، عذبة كندى الربيع المتساقط على الأوراق، ولكن حياتها لم تكن كجمالها. كانت تعيش مع أب لا يعرف الرحمة وظالم لا يسمع سوى صوته، وأم مسكينة لا حول لها ولا قوة، بدأت معاناتها حين تعرضت لحادثة إغتصاب أفقدتها أعز ما تملك، تلك الحادثة التي جعلت منها ياسمين أخرى. لقد أصبحت كثيرة الشرود والبكاء، والإنطواء الذي عزلها عن العالم من حولها، وحولها إلى فتاة ذابلة لا تستطيع الصمود ولا المجابهة. لم تستطع ياسمين إخبار أي أحد بما جرى خوفاً من أبيها، والعار الذي سيلاحق الجميع بسببها. إلا أن إحدى إخواتها لاحظت هذا التغير الذي حولها من فتاة حالمة محبة إلى ذابلة لا تردد إلا سيرة الموت. حاولت كثيراً الإنتحار، ولكنها دائماً كانت تتراجع. وذات يوم، فتحت لأختها شفيقة قلبها، وأخبرتها بكل ما بها من حزن وهموم علها تلتمس حلاً يخرجها من الدائرة التي تدور فيها. دهشت شفيقة التي بالكاد استطاعت أن تتحدث من هول الصدمة.. لأنّها هي الأخرى لا تعلم ماذا ستفعل وكيف السبيل إلى الحل، فهي تعلم علم اليقين ماذا سيفعل والدها إن عرف بالأمر، وسؤال والدتها التي لا تقوى حتى الدفاع عن نفسها. ومرّت الأيام وياسمين وشفيقة تفكران في الحل الضائع الذي لا تعرفان كيفية الوصول إليه، إلى أن جاء اليوم الذي تحدث فيه أبوها بأنّه سيزوجها قريباً بأحد أبناء أصدقائه، فالجميع في البيت آخر من يعلم بأي أمر. لقد زوّج أخواتها الأربع بذات الطريقة، ذلك أن كلمة لا غير موجودة في قاموسه. هو فقط يعلمها بأنّها في التاريخ الفلاني سيكون زواجها. أصيبت ياسمين بالذهول والصمت الطويل اللذين جعلاها لا تعرف بأي حرف ستبدأ الكلام. فصرخة أبيها، التي حركتها حين قال لها "انصرفي انتهى كلامي" جعلت الدموع تسابق كلماتها. نعم!! نعم يا أبي. خرجت والدموع تسلك كل جزء في جسدها المحطم وكأنّها كانت تقول انشقي يا أرض وابلعيني. وكان كلام شفيقة كالرياح التي تزيل بعض الرمال عن الهضاب الصامدة، أي أنّه لم يشف غليل ياسمين وقالت لها: "لعل الزواج يكون الملاذ لك يا أختي" ربّما يتفهمك زوجك حين تخبرينه بما جرى معك، فكلانا لا نعرف كيف السبيل". فقالت ياسمين بصوت مشحون باليأس والحزن. و"ربّما يكون العريس بمثابة الطعنة الأخرى الموجهة إليّ، فأنا لا أعلم كيف سيكون وكيف سأعيش. ولكني سأحاول وأبذل ما في وسعي لمصارحته قبل كل شيء، علني أجعله يقدر ويفهم ما أقاسيه من معاناة. ولكن محاولات ياسمين باءت بالفشل، فتعليمات الوالد القاسي، لا تسمح لها بالجلوس أو الحديث مع العريس، حتى لو كانا قد عقدا قرانهما، فهو متعصب، شديد الظلم، أو بالأحرى شديد التحفظ، إلى أن جاء اليوم الذي يجمعهما، حيث كانت ياسمين مستعدة لتجعل أوّل كلامها يبدأ بالمصارحة بما حدث معها مسبقاً. وما إن جلس منذر بقربها حتى قالت له: أود مصارحتك بأمر ما، حاولت إخبارك به مراراً ولكنني عجزت. فأنت تعلم كيف يتصرف أبي وعاداتنا، فأرجوك كل الرجاء أن تسمعني حتى آخر كلمة، بعدها، افعل ما شئت. قال لها: تكلمي عن كل ما يجول في خاطرك، وكذلك أنا أود أن أعبر لك عن الكثير مما في داخل قلبي، ولكن ما إن أوشكت ياسمين على الكلام، حتى سبقت دموعها كلماتها الضائعة على خديها الناعمين. نظر منذر بذهول، ثمّ اقترب منها وقال: لا تبالغي في دموعك عزيزتي، فأنا أتفهم مشاعرك وأعلم كم هو صعب عليك أن تنتقلي من منزل ولدت وتربيت فيه بين إخوتك وفجأة سوف تنتقلين إلى منزل آخر. ولكن يا عزيزتي أعدك بأنني سوف أعوضك وأجعلك فتاة سعيدة. فردت ياسمين لا تعدني بشيء قبل أن تسمع قصتي. إستمرار انهمار دموعها على خديها، أقلق منذر وزاد من شكوكه. اقتربت ياسمين منه وقالت له أنا لست عذراء، أخبرته وبدت كأنها سحبت كل كلماته من بين لسانه، فصمت صمتاً مرعباً وكان الذهول مسيطراً على ملامح وجهة الغاضب الحزين، ورد بكلمات متقطعة ومبهمة وكأنّ الخرس بدأ يعتريه، ثمّ قال: لم.. لم.. ل.. ل.. لماذا خدعتني ولم يخبرني أحد بذلك؟ وبدأ في الصراخ: "لقد خدعتني، أنا مغفل أنا مغفل"، ثمّ اقتربت منه وأمسكت بيديه وكأنها تريد أن تلتمس الرحمة منه، وقالت له بصوت هادئ: "لست من يستحق هذه الكلمة أنت لست ضحيته أكثر مني، لقد جعلني ذلك الحيوان أسيرة نفسي.. لقد كنت ضحية لإنسان عابث أراد المتعة بجسد طفلة بريئة لا تعي ما حدث لها. خطف منها الإبتسامة، سرقها من بيت أحلام الطفولة ليضعها في أجواء الهم والحزن ولتكون أسيرة لهما. فأنا ليس لي ذنب في ما حصل. فأنت يا منذر الآن بمثابة غطاء لي وهذا سري، أريد أن ندفنه في هذه الليلة إلى الأبد". نظر إليها وابتسم إبتسامة أربكتها، إبتسامة بدا فيها وكأنّه يقول: "لن أقف عند هذا الحد"، لكنها كانت إبتسامة إستهزاء وإستنكار لما سمع منها. وقال لها: "هل لي أن أجعل والدك يشاركني معرفة هذا الأمر أيتها الحسناء"؟ ارتجفت ياسمين الذابلة، وكأن ريحاً حركتها كي تكسرها أمام قدميه، وهي تتوسله ألا يفشي سرها. وقالت له إن عليه أن يصدق روحها الطاهرة. قالت له: "مزقني اقتلني إذا شئت ولكن لا تخبر أبي". وكانت الدموع تتساقط من عينيها اللتين تعبتا من التوسل. قالت: "لا تخبر أحداً. ولكن إن شئت اسأل أختي شفيقة التي أخبرتها كي تساعدني لإخبارك بهذا الأمر، لكننا لم نستطع القيام بذلك". بعدها، طلب منها أن تهاتف شفيقة كي يتأكد، وربما ليعذبها أكثر، ذلك أنّ هذا الإتصال لم يكن سوى شقاء لها، حين أنكرت شفيقة كل ما قاله لها منذر. وبدت كأنها لأوّل مرّة تسمع فيها ذلك الأمر. ونسيت أختها التي هي في أمس الحاجة إليها. نعم!! لم تشفق شفيقة على ياسمين ولم ترحمها، حين اتصل بها منذر. بل تجردت من كل الإنسانية كي لا تسقط بين يدي والدها لقمة سائغة، حيث إختارت نفسها ونسيت شقيقتها المسكينة الضعيفة. كان ذلك الرد بالنسبة إلى ياسمين بمثابة صفعة، قوية تأخذها من هذا الزمن. أحست بإحساس الموت واستسلمت لمنذر، وقالت له: "أنا هنا، فافعل ما شئت!!". رد عليها وهو يقول: "سأفعل سأفعل". وهو يضحك بأعلى صوته كأنّه انتصر أو فقد صوابه، وقال لها: "هل أحسست يوماً بلذة العذاب؟ هكذا، استمرت حياتها بقربه وكأنها الجحيم الذي لا يطاق، حيث عاملها أسوأ معاملة. كان يمطرها هماً وعذاباً، يعاملها كقطعة أثاث مهملة في أي زاوية. ودائماً يلقي على مسامعها أصعب المفردات التي يختارها لوصفها. فهو لم يرَ فيها سوى النقص والعيب. لم يحاول الصفح عنها أو التقرب من قلبها المنفطر. وكأنّها بذلك كان يشفي غليله من ثأر قديم. تعبت ياسمين من الحياة القاسية التي تعيشها، فقررت تحرير نفسها. حينها، دست السم في طعام تناولته لعلها ترتاح. فربّما يكون القبر أدفأ حين يحتضنها، وتركت رسالة لمنذر الذي لم يرأف بحالها، قالتك فيها: "لا أدري من أحمّل مسؤولية الغلطة التي اقترفها الزمن ضدي. ولكن ليس في وسعي إلا أن أقول لقد أخترت لنفسي لذة عذاب أخرى، الوداع".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق